كان ينظر إليها في لهفة، صحيح أنه يمسك صحيفة في يده، وأنه قرأها وأشبع نفسه
من أخبارها ومواضيعها ،لكنه الفضول..المواضيع بحر يغريك بإلقاء نفسك فيه بلا
ملل. جال ببصره حواليه،بدا له الزبناء عالما واسعا..لكل واحد .. لكل ثلة منهم عالم
خاص.. عاد فنظر إليها، كانت مطروحة على إحدى الكراسي،فكر في أن يقوم ويجلس
في تلك الطاولة ثم يمد يده ويتلقفها،يرمي بنفسه التواقة بين السطور.. يقوم بجولة
سياحية بالمجان في كل مكان..كاد يقف لتنفيذ الخطة إذا بجماعة تحتل الطاولة فجأة،
الناس كالدود .. لاتدري من أين يخرجون ولا متى يدخلون..بدأ ضجيجهم يرتفع
،ضحكهم يتعالى..هل هم سعداء حقا؟ انتبه إلى أحدهم يأخذ الصحيفة المنسية فوق
الكرسي، ألقى نظرة عجلى على العناوين وهو يقلب صفحاتها بسرعة ثم وضعها وسط
الطاولة ،رنا إليها آخر في صمت.. وانغمسوا بسرعة في نقاشات حادة ، أطلقوا نكات
مختلفة ..لعلها ساقطة ، هذا زمن السقوط ولا ريب . تساءل لم لا يقرؤون؟ أي قوم هذا
؟ ندم لم لمْ يقم من الأول ويأخذ الصحيفة ثم يقرأها حتى آخر صفحة. صرخ أحدهم :
آه نسيت ، ثم مد يده وأخرج قلما ، جذب الصحيفة قليلا نحوه ،فرشها على الطاولة
وقرأ عليهم اللغز الأول ، صمتوا قليلا ، أحدهم رفع رأسه وأخذ يتفرس في سقف
المقهى،آخر كان ينقر برأس قلمه على حافة الطاولة وعيناه غارقتان في نقطة ما على
الاسمنت المزركش ، تساءل هو : أهذا كل ما يهمهم منها ؟ الكلمات المتقاطعة ؟ مرق
أمامه شاب رث الملابس هـزيل الجسم، بيده أوراق ملفوفة، كان يدخن بشره شديد
سيجارة رخيصة، ثم سحب ورقة وأخذ يلوح بها في الهواء، إنها الكلمات المتقاطعة،
عالم أنصاف المثقفيـن.. قطع عليه تأملاته صوت أحد هؤلاء الثلاثة : آه وجدتها ،
مارسيل خليفة ، ثم طفق يملأ الخانات بالحروف. رفع هو رأسه من جديد نحو الباب ،
كان صاحب الملابس الرثة ينصرف وهو يلتفت إلى الوراء ،يتوقف هنيهة لعله يسمع
أحدا ينادي عليه، أخيرا خرج وهو لا يلوي على شيء ،غرس عينيه من جديد في تلك
الجماعة أمامه ، لاحظ أنهم تركوا الجريدة جانبا وعادوا إلى مناقشاتهم الخدروفية التي
لا تنتهي.. ضحكهم الذي يهز المقهى من حين لآخر، التفت وراءه، كان هناك رجل
ببذلة سوداء يضع أرقاما على مذكرة أمامه، ثم مد يده وسحب محسبة صغيرة أعاد
العملية من جديد .. جحظ بعينيه في النهاية مستغربا .... ضرب الطاولة بقبضة يده وهمّ
بالانصراف، ناداه النادل الذي كان وراءه:
- أستاذ ! لقد نسيت المحسبة .
انحنى وأخذها ، بحركة من رأسه شكره وخرج. عاد فنظر إلى الجماعة العابثة ، كانت
عيونهم تتتبع مؤخرات الفتيات اللواتي يتراقصن في مشيتهن، ثـبّـت ناظريه عليها من
جديد ، أحس أنه طفل صغير رأى لعبته المفضلة،حدّث نفسه : ماذا لو طلبتها منهم ؟
إنهم لا يقرؤونها ..ثم هي ليست لهم أصلا ؟ كانت الجزيرة تبث أخبارها.. دائما بوش ..
فلسطين .. العراق ..دم وأرواح .. ضغوط على إيران .. دول قوية تلعب دور سوبرمان
الذي لا يقهر ..قطع عليه حبل أفكاره تلك الجماعة ، لقد هموا بالانصراف . أخيرا أحس
بفرحة زائدة ، ألقى نظرة حبلى بالعشق الفياض على الصحيفة التي كانت محل عبث
الأيدي .. شعر برأفة دفينة تعصف بقلبه ، التحق بهم النادل على عجل ، هندام وأناقة
..ووجه تبدو عليه علامات حزن دفين ..كغيمة دكناء تخفي وراءها رعودا وبرقا..
أخذ الكؤوس الفارغة ووضعها بعناية تامة على الصينية التي كان يمسكها بيده اليسرى
بحركة رشيقة ، انتبه إلى الصحيفة ، وضع الصينية على الكرسي، تدحرجت عيناه
على العناوين ..ثم مزق جزء منها وطفق يمسح سطح الطاولة الزجاجي .. وقف هو
على التو من غير شعور وهو يحكم قبضته على حافة الكرسي ، كيف ؟ كيف يعصر
الناس عقولهم .. يهبون من رقادهم لتسجيل فكرة ما..كالسحاب هي الأفكار .. لا تدري
متى تتشكل ولا متى تصير مطرا مدرارا ؟ تهطل وأنت راقد في الفراش..أو جالس مع
الأحباب ..أو فاتح رجليك في المرحاض.. تهطل فتبدو خارج الزمان والمكان ..مثلها
مثل بركان لا تدري متي سيلقي حممه بالليل أم بالنهار؟كانت الأفكار تتدافع في رأسه
تدافع الثيران البرية حتى ليكاد يسمع وقع حوافرها ، فيما عيناه ترقبان في غضب
حركات النادل الرعناء الذي كان يتمعن في إحدى الصفحات كثيرا، بعد قليل طوى
الصحيفة كلها حتى أخذت شكل مستطيل صغير،وضعها في جيبه الداخلي
وانصرف.همهم صاحبنا في خاطره وقد استكان : مسكين ...لعله منهم.
زايد التجاني