:: قصة خربـوشة المرأة
هي واحدة من كبريات القصص الشعبي بالمغرب.. لكن لها خصوصية مميزة، هي أنها ليست قصة متخيلة، بل صاحبتها كانت امرأة من لحم ودم.. امرأة عنوانا للتحدي.. تحدي الظلم وتحدي منطق الذكورة الذي كان يسعى إلى تمريغ كبريائها.. لكنها قصة انسلت إليها الأسطورة، لأن صاحبتها كانت أسطورية بمواقفها في زمنها ذاك البعيد، ذاك الذي كانت فيه للقياد سلطة الحل والعقد، سلطة حجب الشمس أو إسكان الأنفس في ظلمات العذاب في الأقبية..
هنا متابعة حكائية وأدبية جميلة، خصنا بها الأستاذ والناقد السينمائي المغربي خالد الخضري، نتسعيد معه من خلالها قصة امرأة مغربية، قصة خربوشة، تلك السيدة التي قالت « لا » في زمن لم يكن يسمح للمرأة حتى أن تقول « نعم »، فكيف بالرفض..
> القسم الثقافي والفني
لسبب واضح هو أنها تفضح الظلم واستبداد القواد في المرحلتين:
- المرحلة الأولى: مرحلة السيبة في نهاية القرن 19 غداة وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894 وتولي العرش بعده ابنه المولى عبد العزيز ولما يتجاوز عمره إحدى عشرة سنة!! تحت وصاية الصدر الأعظم الوزير ابا احماد، الذي اغتنم هو الآخر هذا الوضع وعاث فسادا وطغيانا، مما أثار غضب المغاربة جميعا فأعلن كثير من القبائل تمردهم، وعصيانهم وقاموا بعده ثورات وانتفاضات ضد هؤلاء القواد الفاسدين ولكي «تكشف عن مشاعر كراهيتها وحقدها تجاههم بعد أن لم تبق هناك هيبة سلطانية حقيقية تظللهم. واشتهرت في هذا الإطار انتفاضة الرحامنة ضد "السلطان الشاب" واستبدادية صدره الأعظم با احماد، كما اشتهرت انتفاضة اولاد زيدوهي الانتفاضة التي عايشتها وتفاعلت معها الشيخة حويدة لمدة تزيد عن نصف سنة كانت كلها صراعا عنيفا» .
هذا ورغم أن الزميل حسن نجمي يعتقد في الجزء الثاني من كتابه المشار إليه في المرجع أدناه، على أن الرواية الشفوية أضفت على الشيخة حادة بعدا "أسطوريا" وبطوليا لم يكن بمقدور امرأة قروية بسيطة أن تنهض به، إلا أنه أقر بأن: «الشيخة حادة الزيدية الغياثية ?في مواجهة عيسى بن عمر- كانت إحدى أبرز الأمثلة على الحالة القصوى التي يصبح فيها للكلام ثمن مدمى وتعطي المغنية حياتها لأنها حررت لسانها قليلا ولنقل إنها استشهدت لتتيح للقبيلة إمكانية امتلاك أو إعادة امتلاك لسانها» .
ففي مرحلة السيبة هاته كان القائد هو الحاكم المطلق في المنطقة بل وكان يتشبه بالملك ويقلده في كثير من مرافق وسبل العيش والحكم الاجتماعية، السياسية والاقتصادية من امتلاكه للعديد من القصبات والحريم والخيول وكلاب الصيد وعادات وطقوس الأكل إلخ... وكان من بين أشهر قواد تلك المرحلة وأشدهم فتكا القائد عيسى بن عمر الثمري (1841 / 1924) في منطقة عبدة.
هذا القائد الذي حقق له اجتهاده في قمع الثورات القبلية وإخلاصه وخدمته للعرش ارتقاء سريعا في سلم التراتيبية المخزنية إلى أن عينه المولى عبد الحفيظ وزيرا للبحر (وزير الخارجية) سنة 1910 «كما تولى السلطة أيضا خلال نفس الفترة ولداه أحمد عاملا على ميدنة آسفي، وإدريس قائدا على قبائل عبدة» الشي الذي وسع من دائرة نفوذه وزاده سلطة وجبروتا فغدا يضرب به المثل في القمع والاستبداد إلى درجة أن المؤرخ السلاوي أحمد بن محمد الصبيحي أفرد له كتابا خصصه فقط لجبروته وطغيانه تحت عنوان "عيسى بن عمر وفظائعه"!! ، معتبرا إياه الحجاج بن يوسف الثقافي الثاني لشدة ما سفك من دماء وأزهق من أرواح ذاكرا:
«وقد تمكن القائد عيسى بن عمر من فرض سيطرته على منطقته بوسائل قمعية أسالت الكثير من الدماء، وقد كان عنصرا غير مرغوب فيه بسبب حيازته صفات ترتعد منها الفرائص وأنه اتسم بخبث الطوية والإغراق في الهمجية والوحشية» .
- أما المرحلة الثانية: والتي تفضح فيها خربوشة ظلم واستبداد القواد فهي مرحلة سيبة وزارة الداخلية في هذا العصر تحت قيادة وزير آخر لايقل جبروتا عن سلفه ابن عمر وإن اختلفت الأساليب والأدوات، ألا وهو إدريس البصري، والذي كان للقائد في عهده شأن وسطلة كبيران ويكفي دليلا على المستوى الثقافي والفني أنه تم تعيين وبظهير ملكي عامل على رأس الإذاعة والتلفزة المغربية آنذاك، فبأمر منه تم منع قطعة "خربوشة" من البث الإذاعي، وكان أشد المقاطع تجريحا لشخص القائد في أغنية محمد الباتولي ما ورد في آخرها و خربوشة تحتضر:
قـل للـقايـد
بزاف عليك الحب
فكما وأد عيسى بن عمر خربوشة المرأة حية في حائط ، وإن لم يئد العيطة بل لم يزدها إلا انتشارا- وأد ادريس البصري قطعة حياة الإدريسي ولما لم يمر على ولادتها حول واحد!! والغريب في الأمر أنها لا تزال كذلك باستثناء بثها بين الفينة والأخرى في القناة الثانية .
لكن ذلك الكليب لم يكتب له التصوير لظروف إنتاجية، الشيء الذي لم يزد خربوشة إلا رسوخا في وجداني وأجج نار التحدي لإخراجها إلى الوجود الفني بطريقة أو أخرى...
إلى أن حلت سنة 1998 حين عينت مندوبا لوزارة الثقافة بتازة، ففكرت بتنظيم أيام ثقافية فنية دكالية عبدية بهذه المدينة، والعكس صحيح، أي تنظيم أيام ثقافية فنية تازية بالجديدة. فاقترحت على زميلي في المهنة آنذاك السيد المهدي الزواقي المندوب الإقليمي لوزارة الثقافة بالجديدة، إنجاز عرض مسرحي محلي إلى جانب آخر موسيقي وثالث تشكيلي إلخ... متفقين على إعداد مسرحية «خربوشة» أتولى كتابة نصها على أن يقوم بإخراجها السيد الحبيب لصفر خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي الموظف بنفس المندوبية.
لكن بما أن الإدارة المغربية لا ثقة فيها كما هو معروف، فلأسباب لازلت لحد الآن لم أستوعب كنهها، تولت الفرقة المسرحية لجهة دكالة عبدة إنجاز ذات المسرحية عن نص للأستاذ سالم كويندي، حتى دون أن يتم إخباري فبالأحرى استشارتي؟!! وأنا هنا لا مؤاخذة لي كليا على هذا الأخير لأنه أولا لا ذنب له فيما حصل، وثانيا لأنه صاغ نصا جيدا قام بنشره لولا أن تعسف عليه المخرج المذكور تعسفا مريعا باسم (الإخراج) «فخرج عليه» مما دفعني إلى كتابة مقال نقدي بجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان: «خربوشة تغتال مرتين» . وكان من نتائج هذا النقد وغيره من المقالات التي انتقدت تلك المسرحية الفاشلة، حل الفرقة الجهوية من طرف وزير الثقافة في حينه. فهذا الحدث بدوره رفع من حرارة استفزازي وجعلني أصر على أن أحول هذا الحلم إلى صورة وصوت حقيقيين يدومان على مدى الزمن «فرب ضارة نافعة» كما يقال.
وهكذا انكببت أبحث، أنقب، أستمع، وأعيد الاستماع، وكلما نهلت من معين العيطة وحكاية خربوشة بالذات، كلما ازددت ظمأ وشغفا للارتواء أكثر، إلى أن تكونت لدي قناعة راسخة أن حادة الزيدية الملقبة ب: خربوشة، لكريدة وزروالة، لم تكن مجرد شيخة مناسبات أو راقصة سهرات، أو نديمة أحد أعوان السلطة الأجلاف، وإنما هي شاعرة محنكة وناضمة متمكنة أرخت لحقبة حرجة من تاريخ المغرب، فسجلت على متن عيوطها أحداث وقضايا لم توردها الكتب والمؤرخة لتلك المرحلة.
كتب الناقد الباحث الأستاذ حسن بحراوي:
«كانت العيطة الحصباوية تتعقب دقائق الحياة اليومية التي كانت تدور في أبهاء دار السي عيسى بحيث كانت تبدو أحيانا أشبه ما تكون بجريدة ناطقة باسم الساكنة الصامتة لعبدة التي ظلت تكتوي بسياط القائد وزبانيته من الرعاع والبرغازة» . ويؤكد هذا الاستنتاج الأستاذ علال ركوك في كتابه (موسيقى آسفي نماذج وتجليات) قائلا:
«إن متن خربوشة تختلف حوله الطروحات هل هو اسم واحد أم أربعة أسماء مختلفة استنادا إلى مطلع العيطة الذي هو: الحمرا، خربوشة، زروالة والكريدة.
ويبدو أن كل هذه الأوصاف تنطبق على شخص واحد وهي حادة الغياتية، وهي امرأة شاعرة تنتمي إلى قبلية أولاد زيد التي تقطن بمنطقة الساحل شمال أسفي، وقد دخلت هذه القبيلة في حرب مع القائد عيسى بن عمر العبدي الذي قام بسحق هذه الانتفاضة، وخلال هذه المواجهة كانت الشاعرة تقول أبياتا من الشعر عبارة عن حماسة وحث على الجهاد» .
بل أكثر من كونها شاعرة يعتبرها الباحث المتضلع في فن العيطة الراحل محمد بوحميد، متدينة، محاربة، وحافظة للقرآن الكريم حين اعتبر: «أن هناك عدة خربوشات لكن غالبا حادة الزيدية شاعرة قبيلة أولاد زيد، شاعرة حميس كانت حافظة للقرآن.. ومتدينة.. وتحارب. كانت شاعرة وتغني»
.
رابط المقال
http://lakhel03.arabblogs.com/archive/2008/4/531928.html