تيارات التجريب في المسرح الحديث:
الرهان الذي رفعه مسرح الممثل الذي أرسى دعائمه "جيرزي غروطوفسكي" في نظريته الشهيرة المؤسسة على إخلاء الفضاء الركحي من كل الزوائد على المستوى السنوغرافي، وإحياء لغة الترميز من خلال الرسم المحيل على الواقع الذهني، بما يسمح للممثل بحرية أكبر في استغلال فضاء الركح، والانطلاق نحو عوالم أرحب في تقمص الشخصية، أضف إلى ذلك رهانه على استعاضة الموسيقى المصاحبة للتشخيص، مادام أمر هذه الأخيرة متروك لمقدرة الممثل على خلق أجوائه الصاخبة بالصفير والغناء، وإلمامه بمبادئ السولفيج، والنوتات والمقامات الموسيقية..فعن طريق تناسق الأصوات وتمازجها وتضاربها الصادرة عن الممثل نفسه تخلق موسيقى العرض، وأشكال تعبيرية صوتية ابتداء من ثرثرة الطفل الصغير المرتبكة إلى الأنين المكبوت فالأغاني الشعبية، والتواشيح الدينية..وإذا ما أضفنا إلى هذا كله رهانه الكبير على إقصاء دور المؤلف صاحب النص، ومخرج العرض المسرحي، مادام ما يقومان به يمكن الاستغناء عنه..فإننا سنكون أمام فضاء ركحي خال تماما إلا من سلطة الممثل الذي بإمكانه أن يصنع هذه الأشياء جميعها..كان القديس وهو يتكلم في هذا المقام يستحضر في نشوة غامرة إفرازات ثورة (الهيومانيزم)، وذلك الجديد الذي قدمته في تمثل قدرات الإنسان، وقوام هذه الفلسفة هو الاعتقاد بأن الإنسان قيمة في ذاته، وأنه سيد مصيره، وبالتالي فهي تمجد الإنسان، وقد اكتسحت الفلسفة الإنسية أوربا في مرحلة اتسمت بالانتقال الخطير من العصور الوسطى إلى عصر النهضة كرد فعل على الفلسفة الغيبية التي تكرس الحق الإلهي في مقابل الحق الطبيعي، و تمخض عن ذلك كله الثورة الصناعية- أواخر القرن18- وما نتج عنها من استشراء فكر أعاد إنتاج نفس القيم في ثوب جديد..هل كان القديس"غروطوفسكي" يتمثل الطرح الهيجلي، وهو يدشن لمبدإ سيادة الممثل داخل حلبة التمثيل، وشخصنته وفق قواعد تعيد الاعتبار لذاتيته، أولا وأخيرا، ضدا على التصور القديم؟ أيا كان الجواب فتقاطع الرؤى يفرض نفسه في أعمال القديس وكتابات "فريدريش هيجل" خصوصا في كتابه (محاضرات حول فلسفة الفن الجميل) الذي ينطلق فيه من معاصره الشاعر وعالم الجمال وكاتب الدراما "فريدريش شيلر" من أن إنسان العصر- عصرهما- يعيش في حالة أفول ، فروح الكسب التجاري، والحس المادي، والتجزيئية، وتمزق الروح، وفقدان الإنسان لروح الشمولية، ودخول المجتمع عصر الرأسمالية النامية- عهدئد- التي تقوض الإنسان وتشوهه، وتشيئه، كلها عوامل تؤثر في روح الفن بما يجعله فاقدا لقيمته، وهو ما تطرق إليه "هيجل" في فصل بوما منيرفا " بومة الحكمة"ج1 (تاريخ علم الجمال في العالم) من أجل إنقاذ الفن ليستعيد جوهره وروحه، وبالتالي إنقاذ الإنسان ليستعيد جوهره وروحه الضائعين، والقضاء على الاغتراب الذي يجد نفسه فيه بطريقتين: نظرية وعملية، الأول عن طريق الفكر والفلسفة والتأمل الذاتي الباطني، والثاني طريق الإنتاج الخارجي ( إفراز العمل)، وهو نوعان: نوع يقف ضد عملية التخارج والموضعة، بسبب العمل الإرغامي، ونوع يجد فيه ذاته ويتعرف من خلاله على نفسه..إننا بصيغة أخرى عند رائد المسرح الفقير أمام (الملك لير) في مملكة العشق الركحي الذي يتحول إلى صبي يعشق اللعب والانطلاق، فيقذف الأحجار في النهر، ثم يقف معجبا بالدوائر والحلقات الصغيرة التي ترتسم على الماء كأثر يحرز فيه رؤية شيء من فعله.
إن أعمق ما تحتويه مهنة التمثيل ينحصر في الكشف عن ذواتنا الحية عند القديس، أي عن الجوهر، وذلك بوضع الاستجابات الجسمية والفكرية رهن إشارة المتفرج..بهذا الشكل تصبح وظيفة المسرح علاجية. وإذا كان التمثيل في عهد "أرسطو فانيس"( القرن السادس ق.م) من ضمن ما يعنيه القناع. وهذا ما نستقيه من لفظة ( برسونا) فإنه عند القديس إزالة الأقنعة التي نتخفى وراءها يوميا، لهذا السبب نحن نمثل لنتعلم كما الآخرين ما يمكن تعلمه من حياتنا وكياننا وتجربتنا الشخصية، ومن هنا يصبح التمثيل تجريبا للواقع بعيدا عن كل الادعاءات الكاذبة، وما يغمر حياتنا من التفاهات..وانطلاقا من صدمات التجريب نحيي الحب والجمال والمرح.
الزج بالممثل في فضاء مخبري من هذا النوع يتغيا في المقام الأول تطويع الممثل نفسه (الاستعداد النفسي مع الوعي بعملية التمثيل)، ثم تطويع جسد هذا الممثل من خلال الكتابة بالجسد في الفضاء الركحي، إن آلة الممثل هي جسده التي ينبغي أن تخضع للتجريب بدورها حتى يستنفر كل طاقاته الإبداعية بغية فهمه وإدراكه وامتحانه لأنه المحور وعليه تقوم الدائرة، ثم يأتي بعد هذا كله تجريب الشكل الفني مع ما يتطلبه هذا الأمر من الانفتاح والإلمام بالعوالم والنظريات التي تركت بصماتها واضحة في هذا الصدد، والتجند التام لإعادة قراءة تاريخ الأشكال بدءا من "يوربيداس" و "أسخيلوس" و "سوفوكليس" إلى " أوجينيو باربا" و "أغوستو بوال" و " بيتر بروك" و " كريستوفر مارلو" و "لوب ذي فيغا" و " جوليان بيك" و " وبريشت" و "كوروطو" و " أرطو" و " ألكسندر تاريوف" وغيرهم..مع مراعاة ارتقاء الشكل نحو المستقبل، وذلك لإغناء الشكل المسرحي المتوخى بما يضمن انفتاحه على كل المشارب والاتجاهات، والأخذ بما تسمح به الظروف منها، لأن من شأن الانطواء على نموذج معين أن يقودنا إلى نوع من الجمود الفكري وهو ما حذر منه "بيتر بروك" : " بأننا في المسرح حين نكتشف شكلا فنيا معينا فإنه ليس بإمكاننا العودة إليه إلى ما نهاية، بل ينبغي تجاوزه من خلال البحث والتنقيب عن صيغ وأشكال جديدة". وسعى من خلال أحدث أعماله الإخراجية إلى تطبيق هذا المنهج في التعامل مع نص (هاملت) إحدى روائع شكسبير التي عرضها "بروك" على خشبة مسرحه (لي بوف دي نور) إلى غاية 12 يناير 2001 فهو يرى أن شخصية "هاملت" تقترح علينا كل مرة صيغة لتعامل جديد معها، "إنها أشبه بكرة بلور، لأنها تقدم كل مرة وجوها جديدة"، الأمر هنا يمثل فيه الممثل قطب الرحى، ويتطلب منه نوعا من المجاهدة والإرغام الذاتي في اقتحام أوراش ليست من صميم تخصصه، إذ الممثل هو الذي يصمم ويحيك ملابسه بنفسه، إضافة إلى تدريبه على الاشتغال داخل محترفات الديكور والإنارة والموسيقى والماكياج، وإسقاط القداسة عن النص المسرحي ( وليس إلغاؤه تماما)، وبذل الجهود لكتابة العرض المسرحي- بدلا عن النص- في سياق زمني يتم قبل فعل المشاهدة وليس بعدها، وجعل الأدوات الركحية والأمكنة تلعب رفقة جسد الممثل اعتمادا على لغة الإشارات، هكذا تتحول العصا إلى أفعى ومجادف مركبة صغيرة، والطاولة إلى كرسي اعتراف، وقطعة خشب متصلبة إلى زميل آخر، وقاعة العرض إلى بحر متلاطم الأمواج.
من ضآلتنا، وضحالة فكرنا، وصغر هامتنا، وذهاب شجاعتنا أننا لم نعد قادرين على صوغ الأسئلة، ونظرا لأنه يشق علينا تصور فكرة التجريب خارج مبدإ الالتزام، فإن التجريب هو سؤال الذات المحترقة بهوس المعرفة والجمال في ظل متغيرات تحكمنا بالدونية وتسلط الآخر من أجل إعلاء صوت الإنسان في وطن يطمرنا بين الحجارة، وطن اغتال فينا نزار كما اغتال أحلام الفراش وألوان القزح، ونخشى أن يأتي علينا يوم تعلق فيه رؤوسنا على بوابة بابل أو أسوار مملكة تدمر بقرار مذيل باسم" الحجاج" أو "شهريار" أو "زنوبيا"، أو أي سفاح آخر من الذين أنجبهم التاريخ العربي.