تجربة المسرح الفقير لجيرزي غروطوفسكي:
"عنصر واحد لا تستطيع السينما ولا التلفزيون أن يأخذاه للمسرح، القرب من الجسد الحي، لهذا السبب يصبح كل تحد من الممثل شيئا عظيما، تحد لا يستطيع المتفرجون إعادة إنتاجه"، بهذه الكلمات العظيمة أجاب السيد "جيرزي غروطوفسكي" محاوره عندما طرح عليه هذا السؤال: كيف يستطيع مسرح مثل هذا( يقصد المسرح الفقير) أن يعبر عن قلق يفترض أن يكون متعددا بعدد الأفراد؟ ويستطرد "غروطوفسكي" في إظهار ميزات هذا الممثل النفسية والجسدية والعقلية والعاطفية، حتى أنه ليصل به إلى حد إحاطته بهالة هلامية قدسية، الممثل الذي يسحق نفسه على خشبة المسرح هو ممثل عظيم، هو قديس، الممثل الذي يكشف عن نفسه، ويضحي بالجزء الحميم منه، الجزء الذي لا يهدف إلى إرضاء الناس( الممثل الغاني). أن يكون قادرا على العطاء بالصوت والحركة، هذه الذبذبات التي تتأرجح بين الحلم والواقع، باختصار عليه أن يستطيع تحليل لغته النفسية بالأصوات والحركات، وضبط إيقاعات حركاته في الفضاء المسرحي طبقا للطريقة التي يلقي بها كلامه بشكل هندسي رياضي موزون، وضبط الخطاب الكلامي بالكيفية التي يخلق بها شاعر كبير لغته وكلماته، وبنفس الطريقة التي يضبط بها رياضي متمكن حركات كوسه الهندسية.
لفظ الممثل القديس يقف عنده "غروطوفسكي" بأنه لا يجب أن يخذ هنا المعني الديني للكلمة، إنه مجاز لتحديد شخص يذهب بفنه إلى المحرقة، ويضحي بنفسه، إنها مهمة صعبة جدا أن تجمع ثلة من الممثلين "القديسين"، ومن السهل جدا أن تعثر على متفرج قديس بنفس المعنى،لأنه يأتي إلى المسرح للحظة قصيرة ليصفي حسابات مع ذاته، هل القدسية مطلب لا واقعي؟ إن الممثل يمارس فنا عاقا، يموت معه، لا شيء بعده يعيش إلا النقاد الذين لا ينصفونه عادة، سواء أكان جيدا أم رديئا، وبهذا يصبح مصدر المواساة لذيه هو رد فعل الجمهور، في المسرح الفقير لا يعني ذلك الورود والتصفيقات بل صمت خاص في داخله افتتان مع شيء من النقمة والنفور. أكيد أن ممثلا من هذا النوع يحلم دائما بالمجد المستمر، وبسماع اسمه يتردد، وبالورود تنهال عليه، أو غيرها من رموز التقدير، كما هو الحال في المسرح التجاري، إن ممثلا يمارس عملا عاقا لخضوعه المستمر لسلطة المخرج الذي يضعه دون انقطاع أمام متطلبات متصاعدة تؤلمه، ويحثه على بذل جهود لا تتوقف، هو ممثل قديس.
مسرح "المختبر" اسم يدفعنا إلى التفكير العلمي، هل هذا الربط وارد؟ يجيب القديس بعد برهة قصيرة من صمت وقور:" إن لفظ ( بحث) لا يجب أن يحملنا إلى التفكير العلمي الصرف، لا شيء مما نقوم به أبعد عن العلم بالمعنى الصحيح، ليس فقط بسبب عدم تأهلنا لهذا، ولكن ذلك يعود أيضا إلى عدم اهتمامنا بهذا النوع من العمل، الكلمة (بحث) تعني أننا ننكب على عملنا كنحات من العصر الوسيط نسعى إلى إعادة خلق شكل موجود على قطعة من الخشب، نحن لا نعمل كما يعمل الفنان أو الباحث العلمي، بل نشبه في عملنا الإسكافي الذي يبحث عن مكان محدد من الحذاء ليدق المسمار".
أسس "جيرزي غروطوفسكي مسرح "المختبر" سنة1959 في" أبول" جنوب غرب بولونيا رفقة الناقد المسرحي الكبير"لودفييك فلانس"، ومن هناك خرج أكبر تيار في تاريخ المسرح العالمي أقام الدنيا ولم يقعدها، وبشر بثقافة تحمل في أحشائها فكرا ونورا جديدين.
وفي سنة 1965 انتقل " المختبر" إلى المدينة الجامعية "فروكلاو"، وفي هذه المدينة حصل على رخصة معهد الأبحاث للتمثيل، وأصبح يهتم بتكوين الممثل والمخرج عن طريق البحث في ميدان علوم الفنون المسرحية.
المسرح الفقير هو مسرح البحث، وتلعب فيه الحركة دورا كبيرا، وكذا قلة الإمكانيات، وكفاءة الممثل، الممثل في المسرح الفقير يواجه تحديات كبيرة، يتلقف عالمه الخاص في مسارب المجهول، هو بؤرة النص المسرحي، لذلك يشعر بقدراته الخارقة التي كان يجهلها.