رابط المقال
http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?id=26440
متعة الإثارة في ديوان ( مال الحمام )للزجال محمد بنعلي / إنجاز جواد الرامييعتبر ديوان " مال الحمام ؟ " للشاعر محمد بنعلي مولودا جديدا ينضاف إلى ما تراكم داخل مشهدنا الثقافي عامة والشعري والزجلي على وجه الخصوص .
مولود حاول أن يمزج في فضائه بين أربعة عشر نصا شعريا انتخبها انتخابا من أشعاره الكثيرة التي تنتظر طريقها إلى النشر . وهو انتقاء حاول من خلاله أن يقدم للقارئ مجموعة من القصائد ذات الصلة بالوضع العربي الراهن سواء على مستوى سطح أحداثه السياسية المفجعة أو من خلال الإشارة إلى بعض القضايا والجزئيات الصغرى تخص جانب القيم والإبداع والذوق والانفعالات والمكابدات الشخصية أو الجماعية إلى غير ذلك .
عبر هذه المدارات المتنوعة تتبلور الرؤيا المتواشجة للقصيدة وتنبجس إشراقات تهجس بأبعاد شعرية تفتح أزاهير غضة بلغة عامية في قالب شعري له وقعه التأثيري ومرجعياته الجمالية . ديوان استطاع من خلاله الشاعر أن يبسط مجموعة " من الخصوصيات الشعرية من منظور جديد وبرؤية جديدة.
داخل هذا الفضاء الأرخبيلي المتنوع تتسع الأنساق الوصفية ، ويمتد النص الزجلي في متغيرات متتابعة ، تنحو باتجاه التطابق التام مع عالم النص المشيد ، كل قصيدة من القصائد تتجه تدريجيا نحو تقديم أجوبة عن أسئلة يمليها نوع الموضوع الذي تسعى الذات الشاعرة إلى بسطه في النص عبر سلسلة من الروابط البلاغية التي توحد بين مقاطع القصيدة .هكذا يحتل النزوع التساؤلي الحجر الأساس داخل أغلب قصائد الديوان ، وهي خاصية تظهر جليا من عنوان الديوان نفسه ، حيث وسمه الشاعر بوسام الاستفهام " مال الحمام ؟" وهو عنوان يوحي لقارئه وكأن الديوان سيقدم جوابا يوضح الأمر المستفهم عنه ، إلا أن يعني ذلك خلو الديوان من العمق الفكري .
هكذا شكل التساؤل هاجسا أساسيا تحكم في بناء القصيدة ، لذلك تجده يأخذ تمظهرات عديدة :
1 ) ـ يأتي الاستفهام كعنوان لكثير من القصائد ، بدءا من عنوان الديوان " ماله الحمام ؟ " وقصيدة " اعلاش الوقت يضيع " وقصيدة " سألت كوني كيف بدا " وقصيدة " سألت العين التايهة " .
2 ) ـ يأتي التساؤل في بداية كثير من القصائد كما الأمر في قصيدة " ماله الحمام؟ " وقصيدة " علاش الوقت يضيع " (ص:9) ، وقصيدة " سألت كوني كيف بدا ؟ (ص 27) وقصيدة " تحديقة " ص 29 ، وقصيدة " سألت العين التايهة " ص 31 ، وقصيدة " الكنكانة " ص 53 . وقصيدة " كلمة حب " ص 59.
3 ) ـ الاستفهام الذي يرد داخل فضاء القصيدة وعبر منعرجات مقاطعها ، كما الشأن في قصيدة " يا جامع الشتات " ص 19 وقصيدة " سألت كوني كيف بدا " ص 27 وقصيدة " تحديقة " ص 29 ، وقصيدة " ما قطعت لاياس " وقصيدة الكنكانة" .
4 ) ـ الاستفهام الذي يرد في نهاية القصيدة ، كما في قصيدة " اعلاش الوقت يضيع " ص 9 . وهي قصيدة تنقسم إلى سرابتين تنتهي فيها كل سرابة بالسؤال نفسه :
واحنا اخوت جميع
او مال وقتنا تيضيع ؟ ص: 11
وفي قصيدة " ما قطعت لاياس " التي تنتهي ب:
واش يحيا كيف الناس ؟
اللي ماليه إحساس ؟ ص 46
وفي القصيدة الأخيرة من الديوان " يا راوي " ص 63 التي تنتهي بالتساؤل:
اعلاش الدم يل تكدر
يدور وتصفيه لكلاوي؟ ص 63
من الظاهر أن العمق الإشكالي استحوذ على حيز كبير من قصائد الديوان ، وذلك من أجل تعميق سلطة الإثارة وتوليد جانب من التعالق بين السابق واللاحق ، ولحم عناصر القصيدة والتأليف بين وحداتها ، وكذا المساهمة في خلق تداعيات تسمح بقراءة القصيدة كاستراتجية نصية . فكل كلمة تغدو تنويعا ومبررة بقوة السؤال الذي يغدو بدوره نموذجا قابلا للجواب ويصلح نموذجا يتوج المقطوعة كلها كجواب . إنه بذرة النص إن صح التعبير وملخصه المسبق.
بهذا الإجراء الاختزالي تتابع أبيات القصيدة ممارسة نوعا من التمطيط لمكونات الرحم النصي ، وعبورا تتابعيا في شكل خطية دلالية . فتبنى بذلك أغلب قصائد الديوان وفق متغيرات متوالية يحكمها عنصر اللف ، حيث نلاحظ انتقالا مباشرا يمر من تمثيل إلى تمثيل مما يزيد النص الزجلي تفصيلا مسهبا .
إن هذا التسلسل الترابطي وهذا التأليف الذي يوحد هذه المتغيرات داخل النموذج يتحكم في تشييد البناء الخاص للقصيدة الزجلية عند الشاعر محمد بن علي مما يؤمن لها وحدة كبرى . ويمكن أن ينضاف إلى هذه الخاصية الأسلوبية خاصية إيقاعية ساهمت بدورها في شحن الكلمات بسلطة إثارية خالصة تتراءى وسط ضرب من التموجات الإيقاعية ، ممارسة نوعا من المصاحبة الباطنية مع نغمات موسيقية وأصنافا غنائية كما الشأن في قصيدة "ماله الحمام ؟ " التي تتخذ طريقة النظم عند أهل الملحون ، وهو ما يعرف باصطلاحهم " فراش وغطا " مثال ذلك قوله :
ماله الحمام حين حوم راجع مذعور ــــــ فراش
ما نويت الطبع يتبدل في حما زاجل ــــــ غطاء
وكأن البيتين يشكلان وحدة نصية ذات تيمة يكمل بعضها البعض وهي من البحر " المثني " المتكون من فراش وغطاء .
ولعه من خاصيات ديوان مال الحمام حفاظه على مجموعة من مقومات القصيدة الزجلية وخاصة شعر الملحون في بعض جوانبه ، واستثمار بعض خصائصه في الإبداع سواء على مستوى بناء بعض القصائد أو من خلال استحضار بعض مكوناته والعمل على بلورتها في قالب جديد . ومن أمثلة ذلك الصريحة قصيدة " اعلاش الوقت يضيع " التي تنقسم إلى سرابتين ، وللإشارة فالسرابة كما في عرف أصحاب الملحون هي القطعة التي يمهد بها الزجال قصيدته فتكون في نفس البحر يمهد بها لضبط إيقاع الوزن الذي سينظم عليه . ومن الجلي أن هذه القصيدة اعتمدت تقطيعا يتأسس على معيارية محددة حيث جاءت أبياتها الأولى في صيغة أسئلة متوالية غلفت بنبرة حادة وتوازن صوتي موحد كما في السرابة الأولى وعلى ليونة في الموقف وتعديل في النبرة في السرابة الثانية . هذا مع حفاظ كلا السرابتين على نفس القافية ونفس الأبيات اللذان يختمان به مع تعديل طفيف . كما نجد في بعض قصائده لازمة تتكرر عند نهاية كل قسم كما في قصيدة " ياجامع الشتات " وقصيدة " عض على اللسان " ، وهي لازمة من نفس وزن القصيدة ، كما نلاحظ أيضا حفاظ أكثر قصائد الديوان على تقنية الاستهلال النصي وما يتعارف عليه باسم " الدخول " عند أصحاب الملحون أو باسم " حسن الافتتاح " عند أصحاب الشعر الفصيح ، إلى غير ذلك من التقنيات الفنية المنتمية لحقل الملحون . وليست هذه المسألة بغريبة إذ وضعنا في الاعتبار شخصية الشاعر محمد بنعلي الموسيقي الذي يحفظ الكثير من أشعار المشايخ والذي يعزف بعضها في كثير من الأحيان مع المنشدين وولعه بها وتشبعه بنبضاتها الإيقاعية . كل ذلك كان له وقعه عليه في الكتابة الزجلية. وإذا لم أبالغ أقول أن لذخيرته الموسيقية الأثر الكبير في توجيه الكتابة الزجلية نحو منحى غنائي سواء من خلال سلاسة العبارة ووحدة الوزن ونظام القافية أو من خلال طغيان التركيب البديعي في كثير من قصائد الديوان ، والاقتصاد في العبارة الخ ..
ويكفي لقارئ قصيدة " ياراوي " التي جاءت على بحر الخبب " فعلن فعلن " ليفنذ ذلك الزعم القائل بأن القصيدة الزجلية لا تخضع لميزان عروضي أو لأية مقاييس فنية وليتأكد له بالملموس حضور نفحات الشعر الغنائي .
وربما لهذا الاعتبار أيضا تسير أغلب قصائد الديوان على نمط محدد ونظام ترابطي يحافظ على التماثل السمعي ويفتح المجال لتجانس أبيات القصيدة حيث التزم الشاعر القافية المتعانقة :
أ ـ ب
أ ـ ب
مع خلقه لتعديلات وتنويعات أخرى ينتقل فيها الشاعر من قافية إلى أخرى مع العودة أحيانا إلى القافية الأصلية أو هجرها : مع اختلاف المد فيها وتساوي الجرس ، وما يصاحب ذلك من صدى صوتي .
ولابد من الإشارة أن تجانسات القوافي صوتيا وتعادل أقسامها ساهم في خلق توازن الألفاظ والأبنية على مستوى الأبيات المؤلفة للقصيدة والراجح أيضا أن امتداد ظاهرة تطريز القافية أسهم في تنظيم فضاء النص ، وخلق نواة صوتية بصور وتجليات مختلفة ، فصارت الكلمات المرصوفة ذات مواقع تظهر اطرادا في التنظيم التسلسلي لمكونات القصيدة بعيدا عن كل ما يكدر صفوها .
إلى جانب تلك الخصوصيات الإيقاعية المتراصة اعتمد الشاعر التكرار كإحدى أشكال اللعب بالحروف والكلمات سواء عبر كثافة الأصوات المتجانسة وقرب بعضها البعض أو تعلق الأمر باختلاف معنى الكلمتين المتجانستين مثل قوله
ـ عراف الاعراف عرفها بقلم منجور
ـ يقشع قنديل بلا نار ينور بالنور ص : 6
ـ أو في قصيدة " الكنكانة " " الحب " .
أما من حيث المواضيع فهي كثيرة في الديوان ، متعددة الأوجه ، حسنة النسج تمتح مرجعياتها من ذخيرة الشاعر ومن واقعه ومعاناته الخاصة التي عمل على تحيينها وإعادة بنائها خياليا ، فتجد بذلك حضور نموذج " المرأة " في قصيدة " فاطمة " والحكمة من الحب في قصيدة تحاور الحروف المؤلفة لهذه الكلمة، وجانب الإحباط واليأس في قصيدة " ما قطعت لاياس" إلى جانب حضور بعض الاشراقات الصوفية في الديوان أو التلميح لبعض قصص الأنبياء كما في قصيدة "اعلاش الوقت يضيع " مال يوسف ما بغى يظهر ويفسر لينا لمنام ....فاستحضر في هذا النص سيدنا قدر ، سيدنا أيوب ، الخضير ، آدم .. وجلها أسماء تحيل على مرجعية ذات بعد قصصي في القرآن .
أما من حيث النصوص الغائبة فهي كثيرة في الديوان ، حيث تتناص قصائد الديوان مع مجموعة من الأشعار منها ما يعود إلى أشياخ الملحون أو إلى شعر التصوف والتفاعل مع التراث الشعبي في جانب الأمثال وذلك بغاية إنتاج معاني إضافية وصور شعرية أكثر بيانا .
هكذا استطاع هذا الإنجاز الإبداعي من تكثيف مجموعة من الصور الشعرية داخل فضائه النصي عبر نبضات إيقاعية وبناء نسقي قوي الإثارة ، فاسحا المجال لتعدد القراءة بشكل متنام .
الهامش :
نص المداخلة التي شاركت بها في الحفل الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب ومندوبية الثقافة بمكناس لتوقيع ديوان " مال الحمام ؟ " للشاعر الزجال محمد بنعلي مؤخرا
وللإشارة فإن هذا المقال لم ينشر في أي منبر ثقافي .
ديوان مال الحمام لمحمد بنعلي طبعة سيندي الطبعة الأولى 2004 مكناس ـ المغرب
[img]
[/img]